الرقص في الحُلم داخل حُلم

  


أحيانًا، لا يوقظنا من غفلتنا سوى حُلم.
ليس كأحلام الليل العابرة، بل حُلمٌ نلمح فيه وجهًا رقيقًا، كأنّه من نسـج نسمة.

 في هذا الحلم، تُعاد ترتيب الذاكرة، ويُجرَّب الإحساس من جديد.
تطلّ الرعاية، ويُزهر الحب، وتتكشّف ملامح الجمال كما لو أنها تولد للمرة الأولى.
هنا، استراحةُ الروح على عتبة التحول،
قادمٌ من مكان ناعم بين النوم واليقظة

 

عاد لي وعيي وأنا واقفة أمام المرآة
أرتدي فستانًا كحليًّا من القطيفة، بأكمام طويلة وملمس ناعم يحتضنني كأنني عروس الوقت
كنت في أبهى حُلّتي،
والشمس كانت على وشك المغيب،
ضوؤها البرتقالي يغسل وجهي،
وينسكب على الفستان كما تنسكب الذكريات على الروح
استدرت نحو الباب
كان هناك رجل يحمل طفلًا بين ذراعيه، ويقول بصوت رصين حنون:
"لا بأس، لا تستعجلي… جميعنا في الأسفل بانتظارك."

ثم خرج. وأغلق الباب خلفه بلطف

"جميعنا؟"
تكررت الكلمة في داخلي كصدى بعيد
وبطريقة لم أفهمها، عرفت أن هذا الرجل هو زوجي… وأن هذا الطفل هو ابني
لكنني لم أكن أتذكّر شيئًا: لا متى تزوّجت، ولا متى أنجبت، ولا كيف مرّت كل تلك الأيام

بقيت واقفة أمام المرآة
أنظر إلى الفستان، وإلى عينيّ، كأنني أراهما لأول مرة
جلست على طرف السرير، أحاول جاهدة أن ألتقط خيطًا من ذاكرة ما
لكنّ الخيط كان مبللًا… يتفلت بين أصابعي كلما أمسكت به.

نهضتُ وفتحت الباب
ألقيت نظرة على صالة الجلوس… كانت مزدحمة
رأيت وجوهًا أعرفها: عائلتي، بعض زميلاتي من أيام الجامعة، أخت زوجي وأطفالها، وبعض عميلاتي
حتى قطتي التي توفيت منذ سنتين… كانت هناك!
تلك التفاصيل أربكتني أكثر،
شعرت بهواء بارد يسري في أطرافي، كمن يدعوني للانتباه

عدتُ إلى الغرفة
أغلقت الباب
وقلت لنفسي: "هناك شيء لا أفهمه، أين أنا؟ لماذا لا أتذكّر؟"

وقفت بين خيارين:
إما أن أظل مختبئة هنا خلف الأسئلة،
أو أن أخرج… وأسير وسط هذا الواقع، لأفهم ما يخبرني به

نزلت بهدوء
كان الجميع يتحدث في الوقت ذاته، بنغمة واحدة، بلا توقف،
كما لو أن الزمن لا يعنيهم

الوحيد الذي كان صامتًا هو طفلي
كان يبتسم لي، كأن روحه تعرفني
جلَس في حضن والده، ساكنًا مثل ملاك

اقتربتُ منه، مددت يدي،
فمدّ لي حضنه الصغير… واحتواني

قال فاروق – نعم، تذكرت الآن اسمه –
"هل تشعرين بتحسُّن؟"
أومأت. ابتسمت وأنا أُناوله الطفل
قلت: "نعم، أفضل… لكن ألم أعلي بطني ما زال مستمرًّا."

جاء أحدهم وتحدث إلى فاروق،
فابتعدت لأُحيّي الآخرين

لكنهم
جميعًا بدؤوا يتحدثون إليّ دفعة واحدة
أسئلة، حكايات، تفاصيل
حتى أختي كانت تروي قصة من طفولتي،
طفولة لا أتذكّر منها شيئًا

قلت بلطف: "فلنتحدث واحدًا تلو الآخر، رجاءً…"
لكن لا أحد أصغى

استدرت وغادرتهم
وبعد جولة صامتة بين الوجوه،
نظرت من النافذة،
كانت العاملة تشير إليّ أن العشاء أصبح جاهزًا

الجو ربيعيّ، يميل للبرودة بعد الغروب
والحديقة تطل على البحر،
تلك الإطلالة التي أحب

ذهبت واخبرت فاروق ان العشاء اصبح جاهزا 

ثم قال 
"أعيروني انتباهكم، لو سمحتم
أهلًا وسهلًا بكم جميعًا،
وشكرًا لأنكم هنا… وجودكم يعني لنا الكثير."

أكمل فاروق: "نتمنى أن نلتقي دائمًا على الخير."
ثم  أكملت :
"العشاء في الحديقة، وسيرافقكم فاروق
أما أنا، فأتغيب قليلًا ، وسأعاود الانضمام لكم لاحقا"."

خرجوا بهدوء، واحدًا تلو الآخر،
وبقيتُ وحدي.

فتحت نافذة البحر على مصراعيها،
وتمدّدت على الكرسي القريب،
تأملت الصالة… التي بدت أوسع من ذي قبل.

تساءلت:
لماذا يبدو وجود بعض من أحب ثقيلاً اليوم؟
هل لأن قلبي ما زال يتذكر وحدته؟ أم لأنني ما زلت أستعيد نفسي؟

أغمضتُ عينيّ
وبقيت اراقب النسيم وهو يلامس خصال شعري،
و يمرّ على عنقي وكأنه يربّت علي  .

غفوت 

ثم استيقظت 
النهار في أوجه،
وصوت مفاتيح يرنّ في أرجاء المكان

دخل فاروق، يحمل حقيبته وبعض الأكياس
قال مازحًا: "أراهن أنك غفوتِ مجددًا على هذا الكرسي، أيتها الكسولة!"
ضحكتُ وقلت :
"حلمت أن لدينا طفلًا… وكان بيتنا ممتلئًا بالمدعوين."

سألني: "وكيف كنت ابدو كأب؟"
قلت: "كنت رائع … أما أنا فكنت مشتتة، لا أعرف حتى لماذا نحن مجتمعون."

اقترب مني عانقني برفق وبقي صامتا 

مررت يدي على خده، خللت أصابعي في شعره.
قلت:
أنت لست حقيقيًّا… أليس كذلك؟ لا هذا المكان، ولا هذه اللحظة."

...قاطع حديثي قائلا توقفي ارجوك 

نظرت إلى البحر بينما هو يتحدث ولكن لم اعد اسمع شيء 
حين أدركت أنني ما زلت أحلم،
نهضت

تركت قدميّ تمشيان على هذا الدفء،
والنسيم يراقص أطراف فستاني

مررتُ يدي على كل ما حولي،
ثم عانقت فاروق عناقًا طويلًا

ورقصت دون موسيقى،
دون إيقاع،
فقط استجابةً لنفحات ذلك الهواء. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

يوم ميلاد سعيد لي

عِناق من فراشة ضاحكة

في بطني، بلورة كريستالية